– د.السيد رشاد برى
– شاعر وناقد وباحث، نائب رئيس تحرير بمؤسسة الأهرام
_________________________________
كان ذلك فى نهاية الثمانينات ..حينما جلست معه لأول مرة – وقليل الحظ من لم تتح له أقداره الثقافية والإنسانية أن يجلس مع الشاعر والناقد والمفكروالمبدع الكبير والانسان الأكبر الأستاذ/أوفى عبد الله الأنور – شعرت على الفورأننى أمام أمير رقيق حالم ..شاهق الرومانسية والمثالية ..مثل أولئك الأمراء الذين كنا نراهم ونحن صغار يزينون صندوق البيانولا الشهير ..وقد حباه الله حضورًا إنسانيًا أخاذًا ساحرًا،لاينافسه فى سحره سوى هذا الوجه جميل الملامح، برئ القسمات وجه، تشعر أنه يجاهد بالكاد ليغادر طفولته ،ليكتمل السحر بصوته الأخاذ شديد العذوبة حين يطل بطلعته البهية وصوته القيتارى المتفرد هذا، ليقول جملته الافتتاحية الشهيرة “أيها الأحباء” ستشعر- كما كنت أشعر أنا- بانسياب شلالات ضوء موسيقية تنسكب من أوتار حنجرته لتملأ فراغات الروح ، وتسكن مطمئنة فى جوانح كانت متعطشة أشد العطش إلى بهجة ايقاع راق، ينشرعطره شاهق البهاء،فتحلق به ومعه فوق سحب من أثير الجمال والشموخ والنبل ،فاردا كلماته كشراع فى وجه الريح، يتصدى لعنفوانها تارة ، ويعانق هفهفاتها أخرى، لكنه يخطف صولجانها دائماغير هياب ، ليحمل وردة الإبداع الرفيع إلى فضاءتناالغافية،لعلها تستيقظ ، فتوقظنا لنغنى معها جسدًا وروحًا نغمات (أوفى) الراقية ، تلك النغمات التى تشكل ، ضمن ماتشكل ،أحد أبرز سماته الانسانية التى تجسد هذا الرابط الانسانى بيننا وبينه فى أجمل وأنبل صوره ،ومعهاشخصيته شديدة الحنو وكأن الإنسانية كلها ،أوالجزء الأعظم منها، قد خبأت حنوها لهذا الوجه وحده،وأصدقكم القول،كنت أشعر كأن نداء غامضا يجذبنى لعالم هذا القادم للتو من القاهرة مدينة الأضواء والتحقق والشهرة إلى سوهاج فى هجرة عكسية أثارت دهشتى الإبداعية وقتها، فأبادر على الفور للذهاب إليه من أخميم حيث اسكن إلى ضواحى سوهاج حيث يسكن، ليمضى بنا الحديث،وأنا معه وكأننى مغمض البصر،مفتوح البصيرة،فاتحًا أمامى نوافذ لا تحصى من المتعة الإبداعية والمعرفة الفكرية والثقافية.
وكلمة إثر كلمة،فجلسة تلو جلسة،ثم موقف بعد موقف، أيقنت تماما أننى لست مجرد تلميذ محب،يحب دومًا أن يجلس أمام أستاذه،بلحقيقة الأمر أننى فى صحبة أسعد أقدارى التى جعلتنى تلميذا، وصديقًا،وتوءم روح، ثم امتدادًا ثقافيًا وإنسانيًا لأسطورةإبداعية وثقافية وإنسانية كاملة، ومتكاملة، فقد كان الأستاذ (أوفى) هوفى ذاته”معجزته الخاصة.
إنه أستاذى أوفى عبد الله الأنور رحلة الضوء الجميل،فى نهارسوهاج الثقافى ،وصاحب مدار نورها وتنويرها فى ليلها الإبداعى ، فأينما تخطو داخل أية مؤسسة ثقافية أو تعليمية أو علمية ، رسمية أو أهلية، عامة أو خاصة، كبيرة أو صغيرة ..ستجد جدارية ضخمة تحفر صورة له من نور وتنوير ..فهو نهارًا القاسم المشترك لندوات الجامعة او الحديثة بنات اوفى مكتبة رفاعة الطهطاوى..وغيرها من المحافل والمواقع الثقافية ،وليلًاهو الملك المتوج بلا منازع فى أمسيات نادى الهلال الثقافى،أو قصر ثقافة سوهاج، أو فى احتفالية حاشدة بعرب الصبحة فى دار السلام، او يشارك بحضوره البهى وإدارته البديعة فى ندوة أو أمسية أو مهرجان أو مؤتمر هنا أوهناك فى محافل سوهاج الثقافية من أقصى شمالها فى طما الى أقصى جنوبها فى البلينا. وبالطبع كان لى شخصبا ولنا جميعا فى اخميم النصيب الأوفى من عطاء الأستاذ أوفى، فحين قمت بتأسيس أول نادى أدباء فى أخميم عام 89،كان الأستاذ أوفى مرجعيتى الأولى، وحين أصدرت أول سلسلة نشر اقليمى “إبداعات ثقافية ” كان الأستاذ أوفى هو من اختار عنوان أول إصدارتها وهو الديوان الشعرى المشترك لى مع العزيزين حلمى الخياط وأيمن الحمال رفيقى النشاط الثقافى فى أخميم” قصائد للأرض والحب والإنسان”..وتكرر الأمر حينما أسست مع الأحباء حلمى الخياط وأيمن الحمال ومحمود رفاعى وعلى عبد العزيز والحسينى الشريف مهرجان اخميم الثقافى السنوى، وكذلك حين بادرت بتأسيس فرقة أخميم المسرحية وجماعة الفن التشكيلى والدورة الثقافية بين المدارس والذى كان حريصا على حضور جانب من فعالياتها ،وكان كذلك مرجعيتنا حين أطلقنا جريدة أنباء أخميم، فضلا بالطبع عن كونه أحد أهم ركائز الحركة الإبداعية فى الحركة الثقافية والأدبية لافى جنوب مصر وحده، بل فى الحياةالأدبية والنقدية والفكرية والإعلامية المصرية والعربية كلها، فقد تفرد بامر شاهق العبقرية والتجرد ،فهو لم يكتف بحمل إبداع سوهاج الى مصر كلها شعرًا ونثرًا ونقدًا بتجرد منزه عن أى غرض أومرتبط بحسابات الأرباح والخسائر التى طالمًا غرق فيها وبها الكثيرون، فقط هوقلب محب معلق بمسقط رأسه العسيرات وبوطنه الأصغر سوهاج ووطنه الأكبرمصر وأمته العربية ،منحاز أبدًا لثقافته العريقة وقيمه الأصيلة ..وهو كذلك صاحب عقل مهنى متجدد ومجدد لايعرف الا المستقبل فهو كما قلت لم يكتف بحمل سوهاج الثقافية إلى القاهرة،وكان ذاك يكفيه، بل نجح أيضًا وياللعجب فى جلب القاهرة الثقافية والإبداعية والإعلامية إلى سوهاج.. فشاهدنا على صعوبة الرحلة وقتها نجوما تسطع فى المشهد الثقافى المصرى والعربى تتجشم عناء السفر المرهق والرحلة المضنية فى القطار لأكثر من تسع ساعات،فلم تكن هناك طائرات أو قطارات نوم أو فى أى بى فاخرة ،لنرى ونجلس ونتحاور- حقيقة لاخيالا – مع نجوم كبار مثل : فاروق شوشة وجمال الغيطانى وخيرى شلبى،ومحمد جبريل،وعبد المنعم عواد يوسف، ومحمود الربيعى ،ود.حماسة عبد اللطيف وهدى العجيمى والقائمة تطول..بما انعكس إيجابيًا بشدة على الواقع الثقافى وحتى الاقتصادى والاجتماعى كله لهذه المحافظة التى كانت منسية فأصبحت بتوفيق الله ثم بفضل أوفى عبد الله الأنور فى بؤرة اهتمام مصر كلها على كل المستويات.
وأستاذى أوفى عبد الله الأنورليس فقط احد أيقونات آل الأنور الشعرية العظيمة والبديعة التى أهدت للشاعرية العربية شعراء كبارًابداية من الأب العظيم عبد الله الأنور والأبناء فولاذ ومشهور والسماح الذين سطعت نجومهم فى القاهرة وأوفى الذى اختار البقاء مع الأسرة فى سوهاج ، ليظل هوأيقونتها الشعرية بلا منازع،فهو الشاعر الذى لايعزف إلا من مزماره،ولا يكتب الأشياء كما يراها، لكن كما يتأملها ويفكر فيها،شاعر يتعايش فى سلام مع ذاته أولا..ثم مع هويته كمصرى،وعربى، والأهم أنه خارج دائرة ذلك التطفل الشعرى والإبداعى سواءعلى ثقافات مغايرة ومغرضة ،أو على تراث تليد،لينال وسام الحداثة أو الأصالة، ولوعلي حساب الخصوصية الثقافية ، وهو شاعرُلاتكف شاعريته المحلقة عن طرق أعماقك بمطرقة حريرية شديدة النفاذ إلى عمق النفس البشرية التى هى “سر الأسرار” محاولا أحيانا الصعود بهذه الأسرار،عبر قصائده، إلى حيز المعلوم لعله يعرف- ونحن معه- جوهرهذا العالم،ويدرك حقيقته،ساعياأحيانا أخرى إلى القبض على المفتاح الصحيح لقدس الأقداس “العقل الإنسانى” ربما يفهم- ونحن أيضامعه- كنه واقعه،ومن ثم كيفية التعاطى مع دروبه ومتاهاته وعجائبه والتباساته..وهو فى هذا وذاك يترك لنفسه- ولنا معه- حرية التامل فى دقائق عوالمه ومتعة اكتشاف و قراءة ما يتاح من كنهها،ثم يركض بغنيمته إلى حيز المعلوم،فائزًا- ونحن كذلك معه – بإعادة كتابتها كتابة شعرية مقطرة شديدة الخصوصية والرهافة،لتملأ بعض فراغات أرواحنا التى سكنها الجدب،والأهم تمنحنا سلاحا نبيلًا لمواجهة قسوة الزيف وتداعيات الواقع الردئ..
من زاوية اخرى فإن الأستاذ أوفى عبد الله النور الناقد الأدبى ليس مجرد ناقد يكتب دراسة هنا أو هناك، بل هو فى ذلك النموذج الأبهى لمفكٍر ومثقفٍ عضوى فاعلٍ بكل ماتعنيه الكلمة،حيث يجسد حقيقة ذلك الفارق الكبير بين مفهوم ودور”الأكاديمى المعرفى” و”المثقف الحقيقى” فالأول مطلوب منه إتقان مهامه وأن يكون قدوة فى ذاته المعرفية ،بالطبع قد يستفيد مجتمعه من ذلك أو العكس لكن هذا ليس مسئوليته ، بينما المثقف باعتباره الحلقة الأخيرة فى هذا الشأن فمطلوب منه إضافة لمعطيات ومهام الناقد والمثقف المعرفية، أن يكون ملتزمًا قيميًا وأخلاقيًا أمام ذاته أولًا،وبذات الأهمية والتجرد أمام مجتمعه.. من هنا، فإن المثقف مؤيد بأدواته وإمكاناته العلمية والمعرفية،لكن تبقى دوافعه التى توظف هذه الأدوات والإمكانات على المحك،لهذا كان استاذى اوفى،هوعنوان للمثقفين الحقيقيين الذين يجعلون من أماكنهم ولو كانت بعيدة عن الأضواء أوصغيرةالكيان،يجعلها اماكن كبيرة بالجدية والعطاء والانتماء، من هنا إضافة إلى عطائه النقدى الدائم ،أصبح مؤرخ سوهاج الأدبى والثقافى الأول
،ليحفظ لها ولمصر والانسانية كلها تراث رموز ثقافية وإبداعية أثرت المشهد الابداعى حقيقة،والأهم ألا يتركنا نحن تلاميذه ومحبيه ومريديه وأجيال سوهاج المتعاقبة فى فراغ قيمى هائل – كما كانت الحال – حال سوهاج الثقافية – قبل دراسات وإصدارات الناقد والمفكر والمؤرخ الثقافى الكبير أوفى عبد الله عن رموز مهمة مثل :الباصونى وإبراهيم النجارى ومحمود بكر هلال وأحمد سعد الدين ابو رحاب وغيرهم العشرات من رواد سوهاج، فضلًا عن دوره الكبير فى الكتابة عن مبدعى سوهاج من مختلف الأجيال، ويكفينى شرفًا انه كان أول من كتب دراسة نقدية متكاملة عن شعرى ضمنتها مزهوًا – ولا ازال – ديوانى الأول ثلاثية الليل ، ومثلى العشرات على طول الخريطة الإبداعية وعرضها..لهذا كله ولأكثر منه سيظل الأستاذ أوفى عبد الله الأنور- كما عرفته وكما تعرفونه- مثقفًا حقيقيًا فى زمن الزيف، راقيًا فى زمن التدنى ، رقيقًا هامسًا فى زمن الضجيج، شريفًا فى زمن الانتهازية، مصًرا على قيمه ومبادئه وانتمائه لقناعاته ومايراه الصواب، مترفعًا عن “الصغائر “متساميًا عن الصغار”..إنه أستاذى أوفى الذى سأظل أنا ماحييت أوقن بأنه مرجعيتى فى هذه الحياة والشقيق الأكبرالذى يعطينى الكثير حتى دون أن أطلب ،ودون أن ينتظر منى أنا (تلميذه ) شيئا،وسيظل (هو) أستاذى الذى يعانق نوره ظلى فيأخذ بيدى فى دروب الإبداع والحياةمعًا،ليشجعنى على مواصلة أحلامى ، ويعلمنى – كما كان دائمًا- درس الحياة : وكيف أحول تلك الأحلام إلى حقائق مذهلة.. وها أنذا أحاول أن أتعلم الدرس علنى يومًا أكون لائقًا بأستاذية أستاذى الذى كرمناجميعًا بتكريمه الأستاذ “أوفى عبد اله الأنور”.
– د.السيد رشاد برى
– شاعر وناقد وباحث، نائب رئيس تحرير بمؤسسة الأهرام
موقع الشارع 24 هو منصتك الإخبارية الشاملة التي تواكب أحدث تطورات أخبار مصر، وتغطي مختلف محافظات الجمهورية بمتابعة دقيقة ومستمرة.
نهتم بعرض كل ما يخص بنوك وتأمين، بورصة وشركات، بترول وطاقة، رياضة، منوعات، مع محتوى متجدد في مجالات سياحة وطيران، اتصالات، سيارات ونقل، عقارات، صحة ومرأة، البوابة الزراعية.
كما نقدم تحليلات وآراء متعمقة في مقالات، إلى جانب تغطية فنية وثقافية متميزة في فن وثقافة.
تابع الشارع 24 لتكن دائمًا في قلب الحدث، بمحتوى موثوق وتحليلات حصرية تغطي كل ما يهم القارئ المصري والعربي.



